العنف بين العقل والوجدان

**بلمامون** · 02/01/2010

بقلم أستاذ الفلسفة :

رحموني عبد الكريم

العنف بين العقل والوجدان

يعرف الإنسان بخاصيتي العقل والعاطفة ، فالفكر ملكة للإدراك والامتلاك والقلب مستودع الشعور والوجدان ، وبينهما ينزع المرء نزوعا فيتواصل مع الغير بالحوار ويقدم وجهات النظر، ويذود عنها بكل قوة فيغضب وينفعل لإشباع رغباته الأنانية على حساب الآخر بغية امتلاكه والسيطرة عليه ، وإذا حدث التعارض والاختلاف وحاول الغير تصحيح المفاهيم وتوضيح المنطق السليم كان التأثير المباشر المتجلي في العنف الجسدي واللفظي على الذي خالفنا التعبير وأراد التفرد بقرارات التدبير، وحول قيمة هذا السلوك وجد المراء والجدل بين مؤيد للعقل يغلب منطق التسامح ، ونابذ للطرح معتبرا قصور الفكر وعجزه تجاه اللاتسامح ، وعليه نثير جملة من التساؤلات الآتية : ما السبيل للقضاء على العنف ؟ هل يمكننا أن نعول على قوة الفكر في تغليب منطق التسامح ؟ ثم أليس العقل عاجزا حيال هذه المعضلة العويصة الشائكة ؟
العقل يقضي على العنف :
إن الفضيلة عند سقراط ( 399- 469 ق.م ) هي المعرفة ولذلك الإنسان الشرير جاهل بالضرورة ، ولقد اعتقد الكثير من الفلاسفة القدماء في الحضارة اليونانية إمكانية السيطرة والقضاء على العنف بقوة أفكارهم ذلك لأن الفكرة تسبق الممارسة وملكة العقل عبارة عن قوة إدراك وفهم ، وانتقاء للسلوك والتحكم فيه عن طريق التفكر في الإقدام على الفعل والتريث وعدم التسرع فيه ، وفي غياب العقل يكون السلوك بدائيا حيوانيا يستجيب لغرائزه العدوانية . يكفي أن يدرك الإنسان بعقله أن مبررات السلوك العنيف ليست مجدية ، فالحكمة تنصحنا بإمعان الفكر والتروي قبل الإقدام على استعمال القوة ، جاء في الأثر " ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب " فحبيبنا المصطفى (571 – 632 م )"ص " آخى بين الأوس والخزرج عن طريق الحوار وأسلوب الإقناع مما جعل رجل السلم غاندي يتأثر به عندما قال : " أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر.. لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته. هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت المصاعب وليس السيف ". وإذا أمعنا النظر في جمهورية أفلاطون (347- 348 ق.م )الإغريقي نجده يولي الأهمية الكبرى للنفس العاقلة فالانحرافات السلوكية الفعلية تنتج عن طغيان النفس الغضبية ، والعمل التربوي ونشر ثقافة السلم قادران على منح السيادة للعقل لا للحس والغريزة . يقول أفلاطون : " الرجل الصالح هو الذي يحتمل الأذى ، لكنه لا يرتكبه "
رغم الحلول التي ابتكرها العقل للقضاء على ظاهرة العنف ومدى أهميتها لم تزل العنف، فهذا الأخير لا يزال قائما وحاضرا ملموسا في واقعنا، فالسباق نحو التسلح والتدخل في شؤون الدول الضعيفة، وتجارة المخدرات، والجريمة المنظمة... كلها حقائق تكشف عن محدودية قدرة العقل في مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة المتفشية في عالمنا .
فالعقل عاجز أمام العنف :
سؤال يلح علينا: لماذا عجز الإنسان عن اجتثاث جذور العنف من واقعه رغم رغبته وإدراكه لأهمية السلم في حياته ؟
الإجابة عند عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد ( 1856- 1939 ) الذي يجزم بأن العنف مكنون المكبوت ، فالتحليل النفسي يسلم بأن دوافع السلوك العدواني لا شعورية ومتأصلة في أعماق الوجدان . فاللاشعور ينبوع الميول العدوانية وما قدرة العقل المزعومة في القضاء على العنف سوى وهم جميل تبدده الحقائق العلمية النفسانية الحديثة بإبرازها أن العنف طبيعي في الإنسان. فاللاشعور هو الذي يحدد أفكارنا ذاتها ، فمخاوف الإنسان وأحقاده وميوله العدوانية ترجع في كثير من الأحيان إلى المكبوتات والحرمان العاطفي ، فالأهواء على العموم هي التي تضعف العقل لهذا وجب قمعها والتحرر منها لهذا يقول الفيلسوف الألماني كانط ( 1724 – 1804 م ) : " إن الأهواء سرطان العقل العملي " فلا نجعل العاطفة تأثر على عقولنا . وتتحكم في ضمائرنا اليقظة التواقة لنشر ثقافة السلم والمصالحة ، وقبول الآخر واحتوائه في كل مكان بغية التصالح مع ذواتنا .وعليه يمكن القول ختاما أن العنف ظاهرة تلازم الإنسان حقيقة لا غبار عليها، و قدرة العقل على مواجهتها محدودة جدا ، ومع ذلك يستطيع أن يتحايل عليها ، ويوجهها نحو أهداف سامية تخدم الإنسانية كلها . فأهمية العقل تكمن في توجيه طاقة العنف الحيوية نحو خدمة البشرية ، عن طريق التربية الرياضية ونشر ثقافة السلم والسلام وتمجيدها ، وتفعيل دور الأطر الاجتماعية والأخصائيين النفسانيين في إعداد مواطن سليم يتحلى بروح المسؤولية . رافضا للعنف أينما وجد في الجوامع والمدارس، الملاعب والمقاهي، وفي الأسواق والشوارع ومؤسسات الدولة قاطبة.

العنف بين العقل والوجدان

العنف بين العقل والوجدان

Create an account or log in to leave a reply

Create an account

Log in